الأربعاء، 21 نوفمبر 2012

رجال عرفتهم - تحديث





عبد الرؤوف الروابدة

كنت عرفته وهو مسئول عن قسم الصيدلة في وزارة الصحة، ويعود الفضل إليه في تخفيض أسعار الأدوية في ذلك الوقت، وأبعد احتكار بعض أصحاب المستودعات عن العطاءات والتلزيمات مما كان سائداً في تلك الأيام.
كان المستشار الأمين لوزير الصحة عبد السلام المجالي فكان «وزير الظل»؛ كنا اعتدنا أن نراه في المناسبات أو في حفلات الإفطار في رمضان، حيث كان يطيب للبعض أن يسألوه عن الحالة العامة أو عن سياسه الوزارة فيجيبهم بصفة «نحن» نعمل ونحن سنقدم، قلت له أرى أن هذا التفخيم يليق بك أن تكون وزيراً.
وكنت كلما ترقى من منصب إلى آخر أذهب وأهنئوه وأدعو له أن يأتي يوم أرى فيه العلم يرفرف على سيارته وهكذا صار وسرني ذلك.
له شخصية نادرة فهو مستقيم طليق اللسان قوي في الحق سريع البديهة حاضر الرد والجواب ورغم كل مشاغله التي شغلها والتي لها علاقة بالناس وخاصة عندما أوجد فكرة عمان الكبرى فإنه كان يسيّر الأمور بهدوء وابتسامة ونظرة واقعية.
زرته مرة  لأخذ رأيه في بناء سأقيمه مقابل مستشفى الشميساني ليكون عيادات للأطباء. قال لي أن نظام ترخيص الأبنية يفرض في مثل هذه الحالة ضعف الارتداد، وأن الأرض التي سيقام عليها البناء ليست واسعة ولا تتحمل ضعف الارتداد، لكني على يقين أن البناء إذا أقمته سيخلص منطقة الشميساني الجميلة من مكب للنفايات على الأرض الذي لم يرضَ أحد أن يشتريها ويبنى فيها «فيلا» له لأنها مقابل المستشفى، وعلى هذا سأرخصها لك بناءاً سكنياً، ثم نعطيك الموافقة القانونية على تحويلها إلى عيادات.وهكذا بدأت العمل وأنهيته، لكنه صار وزيراً للأشغال وعندما هنأته قال لا تقلق على عمارتك فأنا متابع لموضوعك فإذا تقدمت إلى الأمانة بطلب تحويل استعمال العمارة ورفضوا، عليك أن تراجعني.
صار «علي سحيمات» أمين عمان الكبرى زرته وهنأته وذكرت له رأي الأمين السابق بإمكانية تحويل العمارة إلى عيادات طبية، قال لي نحن نكمل بعضنا بعضاً فطالما هو وعدك فأنا موافق وسأنفذ الوعد بالصورة القانونية بواسطة اللجنة المختصة، وهكذا صارت العمارة من أجمل العيادات في عمان. 

عبد الرؤوف عابدين

هو من أسرة كريمة من القدس التي بارك الله حولها، انتمى إلى القضاء العسكري بعد تخرجه وترقى إلى أن وصل إلى أعلى مسئول في تلك المديرية. كان ليناً عطوفاً يتدارس الموضوع بهدوء كي لا يظلم أحداً؛ وله في الضبط والربط العسكري ما يجعل أسلوبه في القضاء أن يكون ناجحاً.
له الفضل في بناء المحاكم العسكرية في ماركا فقد نقل المحاكم من «البراكسات» في الزرقاء إلى أجمل موقع في عمان دون ميزانية إضافية إذ وافقه قائد الجيش آنذاك على أن يموّل تلك المشاريع من اقتطاعات المحكومين ومن بعض المتبرعين، فصارت تلك المحاكم مفخرة في مسيرة القضاء العسكري؛ إذ لا بد للقضاء من «هيبة» تبدوا أول ما تبدو في بناء دار القضاء وقد اتفق المهندسون منذ الزمن القديم على أن يكون بناء المحكمة من شكل خاص يوحي بالعدالة والنزاهة فبنوا أكثرها وفي مدخلها العدد من الأعمدة وقيل إنها تكون سبعة أعمدة فخمة على عدد أيام الأسبوع. وفي القضاء العسكري لا بد من بوابة فخمة تفتح لتدخلها السيارات التي تحمل المتهمين وسيارات الحراسة؛ وهذا الشكل هو ما نشاهده في التلفزيون في صور محكمتنا العسكرية.
كذلك كان له الفضل على القضاة العسكريين إذ احتسبوا المدة التي يقضونها في القضاء جزءاً من فترة التدريب اللازمة ليصبح الحقوقي محامياً إذ كانت قبلاً مقصورة على الإدعاء العام والقضاء المدني.







على خريس

تعين في وزارة الشئون الاجتماعية بعد تخرجه من الجامعة مباشرة، وبقي يتدرج في مناصبها إلى أن صار وزير تلك الوزارة؛ هذا ما جعل منه الوزير المبدع في اختصاصه.
كنت طبيبه وطبيب أسرته منذ تزوج، ولذلك كان يراجعني بأولاده بانتظام ويحكي لي ما يفعل في وزارته وأنا أستمع إليه «مطروباً» لما يقوله.
كان آخر مشاريعه أن استأجرت الوزارة عمارة قريبة من عيادتي خصّصوها لإيواء أطفال الشوارع، فكانت العمارة كأنها «موتيل» لأولئك الأطفال فيها مشرف مسئول ويشترط أن يكون متزوجاً وينام في تلك العمارة ؛ وفيها طباخ ومراسل وخادمة إلى غير ذلك، وهكذا أحضر كل الأطفال الذين ليس لهم أهل أو أن زوج أمهم طردهم من بيته، وجنحوا إلى الشارع يفترشونه ليلاً بكل قذارته المادية والمعنوية؛ وتبرعت أنا بمداواتهم ومعالجتهم من أدوية الدعاية الطبية.
ولم تمضِ سنة حتى صار الأطفال يضاهون الأطفال الكثيرين ممن لهم أهل بصحتهم ونظافتهم، وقد عمل المشرف مشروعاً للأطفال الكبار إذ اشترى صناديق مسح الأحذية «البويجي» وعلّم بعضهم على ذلك العمل وخصص لكل واحد المكان الذي يثبت فيه والسعر الذي يأخذه من «الزبون» حيث يخبئه له في صندوق خاص لكل واحد، ومنهم من شغّلهم حسب ما ارتآى من ميولهم إما عند بائع خضار أو بائع ثياب أو اسكافي لتصليح الكنادر. وهكذا كنت أجد متعة عندما أزورهم ليلاً وأحضر لهم بعض الحلوى، وكل طفل يحدثني عن عمله.
مرة سألني «الوزير علي» عن رأي في ذلك المشروع، فاستحسنته، لكنه قال إنا سنواجه مشكلة عند ما يكبر الطفل الأكبر عمراً الآن، إذ لا نستطيع أن نبقيه بين الأطفال الصغار، ولذلك اقترح عليَّ أن نشكل لجنة خيرية اجتماعية نستأجر عمارة ليعود إليها أولئك الأطفال الكبار وينامون فيها لا أن يعودوا إلى الشارع، وقد يساهم الولد الذي يعمل بمبلغ بسيط بدل الخدمات والطعام، أما المشرف والموظفون فتُشرف عليهم وزارة الشئون الاجتماعية.
كان ذلك مخططاً جميلاً ووعدته أن أبدأ أنا بتشكيل جمعية صغيرة نبدأ ونستمر في إخراج ذلك المشروع الذي في ذهن الوزير وننقله إلى الحقيقة والتطبيق. ولكن للأسف وبعد ذلك الحديث بأشهر حصلت حرب 1967 وضاع الحلم والأمل.
سرني مرة وأنا أسير في طلعة الشابسوغ في طريقي إلى العيادة، أن قام «البويجي» الصغير وأغلق حنفية صهريج ماء فتحها الطلاب الخارجون من مدرسة الإمام علي وصار الماء يسيل على الشارع والسائق غير منتبه له؛ قلت في نفسي إن هذا من تباشير نجاح مشروع الوزير علي خريس.














محمد علي بدير

هو وجه عمان المنير، كان التاجر المثقف إذ كانوا قليلين في ذلك الزمن، بدأ عمله في إحدى الشركات الخاصة وطورها إلى أن صارت من أحسن الشركات وأثبتها في الأردن.
كان له الفضل الأكبر في تطوير شركة الكهرباء الأردنية المساهمة بعد أن كانت شركة خاصة يملكها بعض أهل الشام وتطورت برئاسته عمقاً وعرضاً حتى عمّ امتيازها محافظة العاصمة آنذاك، كانت الشركة في حينها مسئولة عن توليد وتوزيع الكهرباء وأقام الأبنية اللازمة لتوليد الكهرباء في أقصى مدينة عمان واستورد مولدات الكهرباء الضخمة ومنها مخلفات الجيش الثامن البريطاني في شمال أفريقيا ومن بعدها المولدات الضخمة التي وضعها في أقصى حدود محطة عمان، وهكذا عم نور الكهرباء كل بيت وغرفة في عمان وضواحيها وقراها، ثم نقلوا توليد الكهرباء إلى سلطة الكهرباء وبقيت الشركة مسئولة عن التوزيع.
أسس أكثر الشركات المساهمة الكبرى وكثيراً من الشركات الخاصة التي لها وجودها في الأردن وحتى في بعض البلدان العربية.
كان أحد المؤسسين الرئيسين والمتبرعين الكبار لمشروع الكلية العلمية الإسلامية وتبرع ببناء سورها على الأرض الذي تبرع بها عبد اللطيف أبو قورة وبذلك حفظ حدود المدارس الواسعة من أن ينهشها الطامعون؛ وانتهى مشروع الكلية بنجاح وصارت مفخرة من إنجازات عمل الخير بتعاون أغنياء المسلمين.
اتصل بي بعد حرب حزيران وقال إن عمال شركة الكهرباء يريدون أن تكون طبيب الشركة بعد أن هددوا بالإضراب مطالبين بتغيير الطبيب المعتمد لدى الشركة، ولخبرته الإدارية قال نحن نبقي طبيبنا وانتخبوا أنتم طبيباً آخر فيكون للشركة طبيبان يختار المريض لأيهما يذهب. سألني ما هي شروطك قلت له إنه يشرفني أن أكون في الشركة التي لك فضل في كل ما فيها، إنما أنا لست بحاجة إلى زيادة عدد المرضى وأن طبيب الشركة هو صديق أبي وزميلي وأحبه ويحبني، قال أنا أتفهم ما تقول ولكن هذا لا يؤثر على دخله وعمله، قلت اسمح لي أن أستأذنه أولاً، قال لا بأس، وفعلاً رحب الدكتور شاكر الزهار بفكرة رئيس مجلس الإدارة ورحب بي. اتصلت بالحاج محمد علي بدير وأبلغته قبولي بعد أن وافق الطبيب على ذلك قال لي وما هو شرطك: قلت أن يحافظ المراجعون من الشركة على نظام وأخلاق العيادة والمهنة فعليهم التقيد بالدور أو الموعد وعليهم أن يقبلوا بتشخيصي أو يرفضوه ولكني لن أكتب لهم العلاج الذي يريدونه لأهلهم ولن أكتب إجازة مرضية لغير مستحقيها. قال قبلت، وقل لي ما هو شرطي أنا قلت تفضل فكلي آذان صاغية قال «أنا قمتهم من ذمتي ووضعتهم في ذمتك» بلهجته الشامية. وهكذا أمضيت عمري الطبي معه ولم يتدخل أحد في عملي وكذلك كنت أول من ساهم بتنظيم التأمين الصحي للشركة فيما بعد.
كان صادقاً أميناً ولذلك كنت أساهم في كل شركة أسسها أو هو رئيس مجلس إدارتها. قال لي يوماً وكنت في زيارته إذا كان لديك وفر من مال «أشتري» به أسهماً في شركة ناجحة فالسهم عبارة عن سيولة نقدية تتصرف به متى تشاء ويعطيك ربحاً معقولاً وهذا خير من أن تبقيه في البنك وتدفع زكاته؛ وهكذا سمعت نصيحته فكان لي عدد من الأسهم في الشركات الناجحة أبيعها كلما ابتدأت بمشروع جديد.
كان شخصية اقتصادية اجتماعية، وقد أنتخب رئيساً لغرفة تجارة عمان العمر الطويل من حياته وكان صادق الوعد يحترم الصغير والكبير ولا يخالف القانون. أحبه الناس على اختلاف مذاهبهم وشخصياتهم.
عندما توفي «رحمه الله» ذهبت لمجلس العزاء في بيته فوجدت الازدحام شديد وكلهم من المحبين لا من المجاملين قلت لأولاده:
علو في الحياة وفي المماتِ


لعمري تلك إحدى المعجزاتِ

قيل هذا البيت في رجل مات وتجمع الناس حوله يبكونه؛ فخطر ببالي أن أعزي بذلك البيت من الشعر.

صبحي الحلبي ومحمود حتاحت

كان صبحي الحلبي من أكابر وجهاء أهل الشام في عمان ومن أكابر تجارها وكان يربطه بالملك عبد الله علاقة محبة ووفاء وكان يشعر بالفخار كلما حدثني عن أمر من أمور محبته لمليكه، وهو بذلك صديق رئيس الدولة أيا كان اتجاهه السياسي، وكان يقوم بكثير من الواجبات الاجتماعية التي على وجيه القوم أن يقوم بها، فمثلاً يدعو رئيس الوزراء الجديد إلى غذاء، ويدعو كل من كان مسئولاً على شرفه، ويدعو كل من عاد من الحج أو عاد من دراسته الجامعية وهكذا كان وجهاً معروفاً ومحبوباً ولا يتدخل في الأمور السياسية أو الحزبية بل له تجارته الواسعة والناجحة. أتاني مرة وقال قررنا نحن بعض التجار أن نستورد «مواسير» المياه من الهند ومقدارها حمولة باخرة هناك وقد حسبت حسابك بمبلغ عشرة ألاف دينار، شكرته واعتذرت إذ إني لست تاجراً ولا أحب أن أشغل بالي بذلك، قال إذا لم يكن المبلغ متوفراً معك فأقرضك ذلك، قلت المبلغ متوفر والحمد لله ولكني قررت منذ بدء عملي الطبي أن لا أشتغل بالتجارة ولا بالأحزاب ولا بالسياسة، وشكرته على شعوره نحوي.
بعد سنة من ذلك أتاني وقال لي أنا بحكم أني عضو في مجلس أمانة العاصمة علمت أنهم سيهدمون العمارة التي أنت فيها إذ كانت واقفة لوحدها فإذا هدموها فإن ساحة الأمانة ستتوسع كثيراً والعمارة قديمة، واستمر قائلاً لذلك اشتريت لك العمارة التي مقابل عيادتك لتنقل إليها عندما يبدأ التنفيذ، وقد دفعت عنك نصف ثمنها عربوناً وعلينا أن ندفع كامل السعر عند التسجيل العقاري؛ وقال إذا لم يكن المبلغ متوفراً معك فسأدفعه كاملاً عند التسجيل، قلت والحمد لله المبلغ متوفر بكامله، وفعلاً دفعت المبلغ كاملاً عند التسجيل وانتقلت ملكيتها إلى اسمي، وهي «الحمد لله» من «أطيب» استثماراتي العقارية وأولها.
نويت أن أبني عمارة نسكنها في الشميساني، وبعد أن أنهيت مراحل الهندسة والتسجيل وكل ما يسبق البناء استشرت صبحي الحلبي وكان تاجر «مواد بناء» قال لي أنا عندي صنف الحديد والأسمنت.
أما جاري محمود حتاحت فعنده كل ما قد يلزم؛ وناداه وأنا عنده وكنت أعرف محمود إذ كان من خيرة شبابنا التجار شكلاً وموضوعاً فكان جميل الطلعة باسم الثغر، يلبي حاجة من طلبه، قال له صبحي أريدك أن تعطي... كل ما يلزم دون أن تحاسبه إلا كما يشاء فقال له أمرك مولاي؟؟.
سألني كيف تدفع ما تسحبه قلت شهرياً، إنما أرسل لك مع «المراقب» كل ما يحتاجه وذلك على وصفة طبية وبتوقيع مني، وقلت مازحاً نحن الأطباء لنا خصم في الصيدليات مقداره 15% وكان ذلك فعلاً ولكنه الغي الآن- فكم خصمي في صيدليتكم، قال أكثر من ذلك ولكن لا أريد أن يطلع أحد على مقدار ما أخصمه لك إذ إن الخصم التجاري المعمول به عادة 5%. قلت قبلت، وانتهت العمارة وسددت شهرياً كل ما كان عليها، وانتقل الاثنان إلى رحمة الله ولا أعلم حتى الآن كم كان الخصم وكنت مرتاحاً جداً بتلك المعاملة.










مهيب الخياط

عرفته عندما صار مديراً للخط الحديدي الحجازي الأردني الذي كنت أنا طبيبه؛ وكان اسمه يسبقه في أي مكان في المجتمع الأردني، فهو ابن الأسرة النابلسية العريقة وهو الأنيق المبتسم دائما، يتحدث بصوت خافت يحسن المجاملة وأدب الحديث ولا يستعمل «الكرافة» بل يضع «البوبيون».
حدث بعد أن التقينا لأول مرة وتعارفنا قلت له كنت أنوي الاستقالة من عملي لأتفرغ لعيادتي الخاصة، قال أنا لا أقبل فهو سمع عني كما سمعت عنه ووعدته أن أبقى طالما هو باق في إدارة الخط وصرت صديق العائلة وطبيبها.
تعلمت منه أمرين:
أولهما- إذا كتب أحد أو مجموعة ضد أحد المسئولين أو زملاء المهنة فإنه يرسل ذلك الكتاب «الضِّرار» إلى الذي شكوا عليه ليجيبه ثم يتصرف.
ثانيهما- إذا أتاه أحد يشكو على زميله أو يتهمه بأمر ما، فإنه يبقي الشاكي عنده ويستدعي المشتكي عليه ويقول له إن زميلك الذي هو بيننا شكا عليك بما يلي وعليك أن تجيب.
وأما إذا كانت الشكوى بدون توقيع فإنه يمزق الورقة ولا ينظر في محتويات ما كتب فيها.
وهكذا انتهت الشكاوي في سكة الحديد حيث كانت تزعج المسئولين، وكثيراً ما كانوا يتعدون المدير ويرسلونها إلى أي مسئول أعلى أو إلى الصحف ولا يقبل الإجابة عليها.
أعجبني ذلك الأسلوب وسألته من أين تعلمت ذلك، قال تعلمته من السيد «فلان» وكان رجلاً إنجليزيا ًحاكم المنطقة التي توظف فيها مهيب مساعداً عربياً له، صار ذلك الإنجليزي وزير خارجية بريطانيا وكذلك مندوبها الدائم في الأمم المتحدة.
وعملاً بمبدأ اقتباس الطيب من الطيبين اقتبست تلك الفكرة وطبقتها في مستشفى الشميساني عندما كنت رئيس مجلس الإدارة، فقد وصلتني أول شكوى فأرسلتها إلى المشتكي عليه إنما أزلتُ الاسم وأفهمت الجميع أن الشكوى التي تصلني من فرد أو مجموعة سأعيدها إلى المشتكي عليه ليجيب وفيها اسم الشاكي وبعدها لم تصلني أية شكوى إنما كانوا يرسلونها إلى الشركاء أو أحد أعضاء المجلس ولا أقبل البحث فيها.
أشهد أنه كان شخصية قليلة المثال محبوباً للجميع ويكاد يكون أحد القلة من الناس الذين ليس لهم أعداء؛ وقد ورِث ابنه «د. ياسين الخياط» جميع صفات أبيه ما عدا «ربطة البوبيون».
بعد أن أنهيت هذا الموضوع تشكلت وزارة «عوني خصاونة»، اختاره الملك ليكون وزيراً للبيئة بعدما أتقن عمله مديراً «للمواصفات والمقاييس».












أمين شقير

هو وجه شامي أردني وضّاء من أهالي عمان، جميل الطلعة لا يُرى إلا باسماً، كنت قبلاً أعرفه معرفة سطحية فقد كان من أوائل الصيادلة الذين أسسوا صيدلية في عمان، وكانت صيدليته على طريق مدرستنا ثانوية عمان، وكان له مستودع أدوية ناجح فقد كان يحسن انتقاء الموظفين الذين يعملون في مشاريعه ويُحسن إكرامهم. أسس الشركة العربية لصناعة الأدوية مع بعض رفاقه الصيادلة وكانت من أنجح شركات صناعة الأدوية في العالم العربي إذ كانوا يحسنون انتقاء ما سيصنعونه من دواء يحتاجه الناس يومياً فتكون أرخص من مثيلاتها في الخارج ولا تختلف عنها جودة، فقد كانوا يشترون المواد الخام من أحسن الشركات الصانعة لخامات الكثير من الأدوية.
زارني مرة في العيادة عندما افتتحتها في وسط عمان وفي سياق الحديث حدثني عن الشركة العربية لصناعة الأدوية وكان فخوراً بها، وسألني هل اشتريت من أسهمها عندما عُرضت في السوق قلت لا، فإن الأدب الطبي الذي درسناه في جامعتنا يُحرم على الطبيب المشاركة أو المساهمة في صيدلية أو مستودع أدوية. عندها قال لي إن هذه الشركة هي شركة مساهمة عامة وليس ما يمنع من أن يشتري أي واحد من الناس أسهماً فيها ولو كان طبيباً وخاصة إذا كانت ناجحة كشركتنا؛ وبعد يومين أرسل لي الموظف المسئول عن قسم المساهمة في الشركة عارضاً عليَّ ألف سهم يريد أن يبيعها أحد المساهمين فشكرته وأعطيته شيكاً بالمبلغ المطلوب، وهكذا بدأت بتلك الأسهم وانتهى الأمر بشرائي عشرات الآلاف من الأسهم.
كنت أزوره في مكتبة كلما راجعِتُ المهندس «حسن النوري» الذي كان يُشرف على عماراتنا في الشميساني إذ كانت مكاتبهما في نفس العمارة، وكنت كثيراً ما أرى عنده الصيدلي تيسير الحمصي الذي كنت أعرفه حق المعرفة منذ كنا في ثانوية عمان وكان في صف أخي الأكبر فكنا نعود إلى ذكريات المدرسة.
كان يؤمن بالديمقراطية ويؤمن بالعمل الحزبي وقد وصل إلى قمة أحد الأحزاب القومية، ولا يؤمن بالانقلابات العسكرية ولا بالصراعات الدموية نتيجة الاختلاف في الرأي والمنهج.
بنى منزله على نمط قصور الشام التي بنيت قبل قرنين، ودعاني ودعا غيري إلى الاحتفال به عندما سكنه. فكان كقصر «آل خزنة كاتبي» في القميرية في دمشق «وقصر العظم» في وسط دمشق وله إطلالة جميلة جداً على حوض البقعة وأصبح قصره معلماً حديثاً من معالم عمان في حضارتها.
في فكري الكثير عن أمين شقير ولكني اكتفي بأن أقول أن الشركة العربية لصناعة الأدوية انتهت بانتهاء حياته. 

الجمعة، 9 نوفمبر 2012

رجال عرفتهم - تحديث


هاني الدحلة

كان زميلاً لي في آخر سنة في ثانوية عمان حيث انتقل إليها من ثانوية إربد، ثم تزاملنا في الجامعة هو في كلية الحقوق وأنا في كلية الطب. كان ذا شخصية قوية مسيطرة، كنت أراه في ساحة الجامعة فيطيب له أن يدعوني إلى شرب الشاي في نادي الجامعة، فأراه وقد تحلق حوله زملاؤه الأردنيون يتكلمون في كل شيء؛ ويعرفني على «حاشيته» الذين أصبح منهم وزراء في عمان.
كان يقف في «بلكون» كلية الحقوق فوق اللوحة الكبيرة المكتوب عليها بخط عريض جداً «كلية الحقوق» ثم يريني الصورة ويقول نحن الحقوقيون الذين سنقود البلد بالدستور والقانون؛ وكان يشفق علينا نحن الذين سنصير أطباء إذ لا تغرينا المناصب الإدارية بل نعمل على البقاء في العيادات والمستشفيات لنحافظ على صحة المواطن وقاية ونعالجه إذا مرض.
تخرجنا وصار قاضياً عسكريا، وكنت أسير معه أحياناً في شارع بساتين المحطة، فيحدثني عن أعماله؛ قال لي مرة: نحن القضاة العسكريون لا يعطينا الجيش علاوة مهنة مثل الأطباء بل نأخذ راتب الرتبة التي نحصل عليها، واستغربت أنا ذلك وقلت إن القاضي لا ينتهي عمله بمجرد خروجه من المحكمة بل يأخذ الكثير من القضايا – بفكرهِ وعقله- إلى منزله وقد لا ينام وهو يفكر في تلك القضية؛ لكنه تابع قائلاً لن أسكت على ذلك؛ خاصة وإن المهنيين من محاميين وأطباء وصيادلة وغير ذلك من المهن يستحقون علاوة مهنة، فهمت فيما بد أنه ذهب وقابل قائد الجيش دون موعد مسبق، وقد فوجئ القائد، وتم فيما بعد صرف علاوة خاصة للقضاة العسكريين ولا تزال سارية حتى الآن.
ترك الجيش وأصبح من أشهر المحامين في عمان، فهو يجادل ويحاور «ولا يسكت على واحدة».
وهو الآن المسئول الأول في لجنة حقوق الإنسان في الأردن.
وقد أصدر كتاباً سماه رماد السنين ذكر فيه ذكرياته. والجزء الثاني من الكتاب بعنوان حصاد السنين. والاثنان يتضمنان تاريخاً للحياة السياسية في الأردن والوطن العربي.



مضر بدران

عرفته في الجامعة وهو في كلية الحقوق وكنا أحياناً نخرج من قاعة المطالعة في المكتبة لنتمشى قليلاً ثم نعود إلى المطالعة. كثيراً ما كنت أراه حاملاً كتابه بين يديه قبل المغرب يدرس فيه وهو يسير في الحديقة قرب المكتبة.
كان هادئاً وليس له الكثير من الأصدقاء الأردنيين الحزبيين بل كان كثيراً ما يسير لوحده وهكذا تخرّج وهنأته وصرت طبيب أسرته وبالأخص طبيب أبيه.
فيه صفات رجل الدولة مما أهبّه «لرئاسة الوزارة» فهو من عائلة عريقة وذو علم غزير «وغير منتم» لليسار أو اليمين مكتف مادياً «بالإرث» ذو طبع هادئ لا يتصرف بعصبية حتى في أحلك الأوقات؛ كما كنا نلاحظه في التلفزيون الأردني في أحلك الأوقات.
أعرف الكثير من قصص نزاهته في المسئولية حيث يعطي كل ذي حق حقه.
كان إذا راجع العيادة ومعه ابنه المريض ينتظر الدور ولا يرضى أن يأخذ دور أحد من الذين يقدّمونه طوعاً على أنفسهم، فهو نظامي بالفطرة يحب أن يطبق النظام على نفسه وفي كل مكان وزمان.
أرفق صورة عن تهنأتي له عندما صار رئيساً للوزراء لأول مرة:


































محمد رسول الكيلاني

عرفته في الجامعة السورية عندما كان يأتي إلى دمشق لتأدية فحص الحقوق، وكنا نجلس في قاعة المطالعة وبدون تخطيط، هو في أقصى الزاوية الشمالية وأنا في أدنى الزاوية الجنوبية، وكنا نبقى في القاعة إلى آخر دوامها في العاشرة ليلاً؛ قال لي وبعد ثلاثين عاماً من تخرجنا، كنتُ أحياناً أشعر بالملل ولكن انظر فإذا بك ما زلت في مكانك، فأستمر أنا على المطالعة والدراسة إلى أن تخرج.
كان رجلاً متديناً من عائلة كريمة متدينة، انتسب إلى السلك القضائي العسكري بعد تخرجه من الجامعة، وكان هو الذي اكتشف الذين قاموا بتفجير دار رئاسة الوزراء في عمان مما أهله ليكون المسئول الجديد عن تنظيم المخابرات وكان له الفضل في تأسيس المخابرات العامة على أساس علمي وأخلاقي؛ ووظف معه مجموعة من خيرة شبابنا الجامعي. وأنشأ بناءاً خاصاً بلون أزرق صار يعرف عند العامة والخاصة «فيلا أبو رسول».
كان رجل حكم يتحمل المسئولية في أحلك الأزمات، ولم يُعرف عنه أنه اعتدى على أحد أو انتقم من أحد.
رآني صدفة وأنا خارج من جامع الكلية العلمية الإسلامية بعد صلاة الجمعة
ومعي أخي وبعض الأصدقاء؛ نزل من سيارته وسلم علينا وقال استأجرنا عمارة للمخابرات في الشارع خلف عمارتكم ودعاني أن نذهب رأساً ونشرب الشاي هناك ويطلعني على إنجازاته التي كان يفتخر بها، وفعلاً ذهبنا، واسترعى انتباهي وجود لوحة على الحائط في مكتبه مكتوب فيها الآية الكريمة 
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ)   [الأحزاب: 23] قال لي وأنا أقرأ الآية الكريمة، هذا شعارنا الصدق والأمانة، قلت هل لكل واحد ملف عندكم قال نعم وأنت منهم وسأحضره لك بشرط أن لا تقرأ أنت ما فيه قلت موافق، وفعلاً أحضر «جلا سوراً» منتفخاً لكثرة امتلائه بالأوراق وقرأ لي آخر ما ورد إليهم عني بتوقيع مخبر صادق، وكان الموضوع تحركي في محطة عمان في يوم الجمعة بعد أن خرجت من جامع حي المعانية في المحطة؛ قال صدقني إننا لم نطلب من أحد أن يراقبك ولا متابعتك ولكنك لأنك صرت معروفاً صارت تردنا أوراق كثيرة عنك، وقرأ صفحة أخرى وضحك وقال لو تعلم من أرسل لنا هذه الإخبارية لهالك الأمر، قلت اتفقنا أن لا أقرأ ولن أسأل، قلت وأنا خارج وشاكر ضيافته إياك أن تظلم أحدا ًفالله سبحانه حرم الظلم على نفسه ونصحنا أن لا نتظالم قال اسمع هذه القصة: أتذكر عندما شهد علي زوراً أحد طلاب الطب الأردنيين في المشاجرة التي حصلت في الجامعة وحرموني من تأدية الفحص دورتين قلت نعم، قال تخرج ذلك الطالب وصار طبيباً في الجيش، قال أتتني إخبارية من عناصرنا بأن طبيباً ينقل متفجرات بسيارة الإسعاف العسكرية، وأعطوني اسم ووصف الطبيب فإذا به ذلك طالب الطب الذي شهد علي زوراً؛ قلت في نفس: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ)   [المائدة: 8]؛ وهذا جرم خطير، قلت تأكدوا بدقة وأعطيتهم التعليمات الدقيقة ووضعته تحت المراقبة الشديدة، وتبين لنا بعد ذلك أن الذي كان ينقل المتفجرات طبيب آخر يشبهه بالشكل ويعمل بنفس المجموعة الطبية؛ وبذلك لم أسمح لنفسي أن أعتقله على الشبهة وأسيء إليه كما أساء لي.
والغريب أن كثيرين من الناس كانوا «يلوكونه» بألسنتهم مع أنهم لا يعرفون ولم يسِيءْ إليهم، أترحم عليه وأدعو الله أن يطيل عمر أخيه. د. إبراهيم فقد عرفته وهو في أول سنة في كلية الشريعة وأنا في آخر سنة في كلية الطب؛ وكان لا يضيع وقته باللغو بل بالعلم والاجتهاد، تخرج ودرّس ووعظ ونصح فكان التقي النقي الورع الجريء يقول الحق دون مجاملة. أحببته وينشرح صدري عندما أراه بالمناسبات وكأني أمام واحد من صحابة الرسول الكريم.
وأخوه موسى الصحفي المسلم، أراه في المناسبات وأسلم عليه وأرجو له التوفيق في عمله الصعب.
تلك ذرية بعضها من بعض والله غفور رحيم.



غالب أبو عبود

عرفته في الأيام الأولى لافتتاح عيادتي فقد أتى وزارني وهنأني وصرت طبيب أسرته وعشيرته، وكان كلما مر في شارع العيادة مساءاً أتى ووجد غيره من الأصحاب فجلس إلى أن ينتهي دوام العيادة ونشرب الشاي ونتحدث في كل شيء.
كان تقياً نقياً صادق الوعد كريم الطبع، علمت أنه موظف في ديوان المحاسبة فقلت له مرة إن مكانك الرئيسي يجب أن يكون في قصر العدل قاضياً تقيم الوزن بالقسط وتحكم بين الناس بالعدل، لا أن تكون موظفاً مثلك مثل المئات من الموظفين الذين ينتهي تفكيرهم بانتهاء ساعات دوامهم.
وسبحان الله فقد تيسر له العمل في القضاء فصار قاضياً لأمانة عمان ثم مدعياً عاماً في مدينة عمان، وكنت أسمع تقريظ الناس له وأحياناً انتقادهم فيصفونه بأنه «مدع عام» مخيف لا يجامل أحداً في الحق.
حدثت معي ومعه قصص كثيرة كان من جملتها أنه عندما صار قاضياً لأمانة العاصمة خالف سيارتي شرطي وضعها على زجاج السيارة في أنني أقف في مكان ممنوع، والواقع كانت سيارتي تقف في مكان مخصص لأطباء عمان في منتصف «ساحة فيصل» وعلى السيارة إشارة الطبيب التي تصدرها نقابة الأطباء. وعندما ذهبت إلى المحكمة سألني القاضي غالب هل أنت مذنب قلت لا قال لا بل أنت مذنب وسأدفع قيمة المخالفة مني وكانت عشرة قروش ولا أريدك أن تراجع المحكمة مرات عديدة لتثبت براءتك؛ وبالصدف كان أبوه جالساً في المكتب وكان يحبني كأحد أبنائه قلت له هل يرضيك يا عمي أن ابنك القاضي الذي فرحنا كثيراً «لقضونته» يحكمني، قال أبوه غاضباً لا يجوز أن تحكم عليه وهو يقول لك إنه بريء وتكلم مع غالب غاضباً ومتوتراً بشدة فهو لا يرضى أن ابنه يحكمني وأنا الغالي عليه، قال له غالب: «يابا» إنه يمزح معك، وهذه مخالفة سيارة ولا قيمة مادية أو معنوية لها.
قلت هدئ أعصابك «يا عمي» فأنا أسامحه ولكن أطلب منك «حق عرب» لأن ابنك هو الذي «حكمني» قال «أبشر» فيوم الجمعة غذاؤك والعائلة عندي على «منسف خصيصاً لك» قلت قبلت، وهكذا كان، فقد كان يدعوني كثيراً على المناسف بمناسبة وغير مناسبة، ولكثرة ما كنت أدعى عندهم صرت أتقن أكلة المنسف باليد وأستخرج المخ من الجمجمة بطريقة جراحية. ولا بد لي أن أذكر وبكل محبة وافتخار أني تعلمت أكلة المنسف في بيت فهد أبو العثم وغالب أبو عبود والشيخ فلاح العابد.
ولكثرة تردده على العيادة والزيارات المنزلية والرحلات في الأحراش صرتُ له بمنزلة الأخ الأكبر، ولذلك عندما قرر أن يتزوج جعل من عيادتي الملتقى الأول مع بعض من لهم «الشور» من أهل الخطيبة، وكان النقاش هادئاً انتهى بالموافقة المبدئية وقراءة الفاتحة؛ ومع الزمن كان لقاء تلك الخطبة «باكورة» لكثير من «الخطبة» للأصدقاء تتم في عيادتي وبالموافقة الأولية.
كنت أحب حديثه معي مباشرة أو بالهاتف، وكان عندما يزورنا في بيتنا نجلس في غرفة الجلوس لا في غرفة الضيوف وإذا كان الفصل شتاءاً يتعهد أبي «غلي الشاي» على الصوبا وتحضيره أمامه وتقديمه له، فقد كان يحبه ويعجب به.
حدث مرة نقاش تخالفنا الرأي فيه وعندما انتهى المجلس وكان حديثاً عاماً قال لي هل زعلت مني لأني ناقشتك وكنت طيلة معرفتي بك أستأنس برأيك، أجبته ببيت من الشعر لابن زيدون:
وودادي لك نص


لم يخالفه القياس

 فكان إذا دخلت مجلساً وكان سبقني إليه يقف من بعيد ويحييني ويعيد لي ذلك البيت على مسمع من الحاضرين. أحببته وأحببت أبوه وإخوانه وكنت أراهم دائماً في كل مناسبة سواء فرح أو عزاء، وهم مثاليون في كل شيء.
حدث مرة عندما كنا في الحج وجلسنا أمام قبر الرسول الأعظم مجموعة من مثقفي عمان من المتدينين، فقلت لهم تعالوا نذكر أصحابنا في عمان الذين أوصونا أن نسلم على الرسول الكريم ونشبهم بالصحابة الكرام، وسأبدأ القول ثم نناقش شخصية كل واحد «لنثبته» في المكان الذي نجمع عليه وكأننا نبيع ونشتري ونقايض التقوى» فقلت: إن
د. عدنان الجلجولي أبو بكر أمتنا، وأن غالب أبو عبود عمر أمتنا، وإن سعد الزميلي عثمان أمتنا، وأن قنديل شاكر أبو عبيدة أمتنا، قالوا نوافق وتركت لغيري كل واحد من أحبائنا في عمان في مكان يتفقون عليه.
كان غالب رجلاً إسلامياً منتمياً ولذلك قررّ المسئولون عن الاتجاه الإسلامي ترشيحه لأحد المجالس النيابية عن منطقة عمان، ورغم أني زرته متمنياً له النجاح والتوفيق، إلا إني قلت له إن مكانك ليس في المجلس النيابي فأنت «رجل منتمِ» إلى فئة معينة وعليك أن تتبنى رأيها في المجلس ولو كان عكس رأيك، أما عندما كنت في القضاء فالرأي لك مستمد من القانون الذي عليك تطبيقه بالعدل والحزم وعليك إنصاف الناس والمساواة بين «المتحاكمين» في المجلس، وكنت تفعل ذلك, وعندما لم ينجح زرته وقلت له إني مسرور بذلك.
وفي الترشيح لانتخابات نيابية تالية أتى واستشارني وقال لي إن رأيك سيكون الحد الفاصل بين أن ترشح أم لا، وكان شعار الاتجاه الإسلامي في ذلك الوقت «الإسلام هو الحل» قلت له هذا الشعار لا يعني شيئاً في العمل السياسي أو الاقتصادي وأرى أن لا تترشح، وهكذا سمع الرأي ولم يرشح نفسه لذلك المجلس إذ كان من صفاته أنه من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
رحم الله غالب فقد كان: المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف.  








أحمد عبيدات

عرفته منذ تخرجه من بغداد وكان كثيراً ما يتردد على العيادة بعد المغرب لنجلس ونشرب الشاي خاصة وكان الكثيرون من الجالسين من زملائه هناك.
استشارني مرة هل يترك عمله الذي كان فيه وينتقل إلى المخابرات العامة التي أسسها محمد رسول الكيلاني وجمع لها خيرة الشباب الجامعيين؟ شجعته وقلت إذا تركنا هذا المكان المهم فمن يأخذه!! وذكرت له قول ابن سينا «لا تعلموا أولاد الأسافل الطب»، وهذا ما يجب أن ينطبق على المرفق الهام وهو المخابرات العامة فيجب أن يكون المسئولون فيها من خيرة شبابنا عائلة وثقافة وخلقاً وتقوى الله.
وكنت أتابعه وأُسَرّ كلما رأيته يرتقي في منصبه إلى أن وصل إلى القمة؛ وكنا نقول إن مرآة حضارة البلد تتجلى في نظافة مخابراتها وسجونها ومراكز الأمن العام فيها، وهكذا وحتى في الأوقات العصيبة التي مر فيها بلدنا لم نسمع أن أحداً من المسئولين اعتدى على أحد من المواطنين أو ظلم برئياً أو ابتز واحداً.












الشيخ محمد سردانه

عرفته منذ تخرجت من كلية الطب وكنت طبيب أسرته، هو من بلدة «الفالوجة» وذهب إلى غزة ومنها إل القاهرة ودرس في الأزهر. هو شخصية مثالية نادرة، متعدد المواهب ومتعدد الصفات الحميدة، بدأ مدرساً للدين في ثانوية البنات في عمان وكان من حظ زوجتي وهي طالبة في ثانوية الملكة زين الشرف أن كان أحد أساتذتها.
كنا كلما أوْلَمَ أحدنا أو احتفل بزواج أو تخرج من الجامعة ندعوه ليكون النكهة الطيبة لكل احتفال أو مجتمع من ذاك القبيل، ولذلك حضر أكثر جاهات أصحابه وتكلم وأضحك وأُعجب به الجميع.
ذهبنا كثيراً معه في رحلات وشطحات وجلسنا كثيراً في أمسيات علمية ودينية فيجد الواحد منا نفسه وكأنه يسمعه لأول مرة، حاضر النكتة وحاضر البديهة وحاضر الرد الأدبي. استدعوه مرة للتحقيق معه وكان يرأس اللجنة مدير الأمن العام فسأله من أين أنت قال من بلدة الفالوجة، قال المدير هل صحيح أن جمال عبد الناصر كان محاصراً في الفالوجة، ؟ أجابه التاريخ يقول ذلك.
انتقل من التدريس إلى القضاء الشرعي ووصل فيه إلى أعلى الرتب، ومن ثم انتقل إلى غزة ليرأس القضاء الشرعي ولكنه لم يمكث طويلاً وعاد إلى عمان وتقاعد وفرّغ نفسه للكتابة.
كان أبي يحبه كثيراً ويعجب به ولا بد أن يكون على رأس أية دعوة أو أي احتفال يقيمه أبي واتفق معه أنه لا يجوز أن تمتد السهرة إلى ما بعد العاشرة ليلاً، ولذلك ينادي أستاذنا على الجميع أن دقت الساعة العاشرة وعلينا أن نغادر رغم أن أبي يرجوه أن يمدد الوقت ولكن لا يقبل لأنه يحافظ على النظام.
زرته قبل يومين بمناسبة عيد الفطر وعيدت عليه وجلست أنصت إلى حديثه الذي أعادني إلى أيام الشباب، أهداني كل إنتاجه من الكتب الدينية والفقهية مما تصلح أن تكون مرجعاً للدارسين والباحثين في القضاء الشرعي.

الاثنين، 22 أكتوبر 2012

رجال عرفتهم



ورد في كتاب «
 خمسون عاماً في مهنة الطب العام في عمان»

للدكتور موفق خزنة كاتبي 

                                       في جزء رجال عرفتهم


المحامي صباح البيروتي


عرفته في الجامعة السورية، كنت أنا في الصف قبل النهائي من كلية الطب، وكان هو في السنة الأولى من كلية الحقوق، كان أصغر طلاب كلية الحقوق من الأردنيين، وأكثرهم وسامة وأناقة، وكان أحد القلائل من الطلاب الأردنيين الذين تفرغوا للدراسة، إذ كان كثير منهم يأتون قبل الامتحان النهائي ويلزمون قاعة المطالعة، أو بعض المجالس في مقاهي طريق الصالحية، إلى أن يقضوا الفحص ثم يعودون إلى بلدهم.
كان خلوقاً متديناً دون تزمت، ذا شخصية جذابة حلو الحديث، لذلك كان القاسم المشترك بين كثير من زملائه، أحبه الجميع وأحبوه، ورغم كل هذه الصفات البديعة، لم أره مطلقاً مرافقاً لأحدى زميلاته في الكلية أو خارجها.
عرفت أنه من مدينة الزرقاء التي كنت أزورها كثيراً برفقة أهلي، لوجود بعض أصدقاء أبي القدامى ولوجود بركة الزرقاء، التي كانت أفخم بركة للسباحة والنزهة في الأردن.
ولذلك كانت لي علاقة خاصة معه بعد تخرجه، فكنت أزوره كلما ذهبنا، الأهل والأصدقاء إلى تلك البركة، وكثيراً ما كان صباح يدعونا لتمضية عطلة الأسبوع هناك، وفي إحدى المرات علَّم أخي عبد الله السباحة.
كنا كثيراً ما نترافق يوم الجمعة إلى رحلات في وادي السير مع موسى «بيوك»، أحد شباب الشركس وابن أحد زعمائهم، نذهب إلى بساتين الرمان، حيث النوع الفخم من رمان «جواد بيك» المشهور هناك، نمضي يومنا في الشواء تحت ظلال شجر الرمان، وعلى حافة قناة الماء البسيطة، التي تصب بشكل شلال صغير لتدير طاحونة مائية صغيرة، كان يعتمد عليها شراكس وادي السير قبل تأسيس المطاحن الكهربائية التي تدار بموتورات الديزل. وكثيراً ما كنا نمضي بعض رحلاتنا الأسبوعية في «السخنة» على نهر الزرقاء، أو في أحراش جرش تحت شجرة «الهدأة» البلوطية، ولهذا «نما» بيننا نوع من المحبة والأخوة، فصرت أنا طبيب أسرته، وهو مرجعي في المحاماة. وقد حبب إلى أخي عبد الله مهنة المحاماة، فذهب إلى دمشق وتخرج من جامعتها، وبقي يسير صعداً إلى أن حصل على شهادة الدكتوراه في القانون الجنائي، وأصبح محامياً أكاديمياً، أما صباح فبقي محامياً مزاولاً مهنته بنجاح، بدأ في الزرقاء حيث مدينته، وحيث يعرفه أكثر أهلها، فصار محامياً لأكثر تجارها وأكثر عائلاتها، ونظراً لوجود المحاكم العسكرية ومحكمة أمن الدولة في «بركسات» الجيش، صار على حداثته في المحاماة مترافعاً أمام المحاكم القضائية العسكرية، ومحكمة أمن الدولة، وقد اكتسب شهرة في هذا الميدان، وكثيراً ما كان رؤساء تلك المحاكم يستدعونه ليرافع عن متهمين، ليس لهم محام خاص، وكانت أكثر قضاياه تنتهي إلى النجاح.
انتقل مكتبه في أول السبعينات إلى عمان، وبقي أخوه المحامي المرحوم أحمد في مكتب الزرقاء قبل أن ينتقل المكتب إلى عمان. وبهذا انتقل صباح وبيته ومكتبه وأعماله إلى عمان، وتنقل بين مكتبين مستأجرين قبل أن ينتقل إلى «الفيلا» «الحديثة الشكل»، مكتب «شركة البيروتي محامون ومستشارون»، بفخامته الظاهرة وتنظيمه الباطن، وقد درس اثنان من أبنائه الحقوق وتخصصا في العقود والشركات، وهو الآن من أنجح المحامين، يعطي القضية حقها من الدراسة والمتابعة، ولا يترافع إلا في القضايا التي يعتقد بنجاحها ولوجود شرطين فيها الحق والقانون.
أصبح في علمه ومكتبه ونشاطه ونجاحه في قضاياه «أستاذ دكتور» في تلك المهنة، وأصبح كل من يوكله في قضية يطمئن إلى نجاحها، وقد سمعته أكثر من مرة يعبر عن قناعته، بأن واجب المحامي ألا يدخل في خصومة شخصية مع الخصم، جَرْياً على القاعدة الذهبية بأن المحاماة هي بذل عناية وليس تحقيق غاية. 
في إحدى السنوات، رجوته أن يقبل ابنتي المحامية الناشئة سميرة، لتتدرب في مكتبه حسب مطلوبات قانون نقابة المحاميين، وفعلاً أنهت تلك المدة وقد اقتبستْ عنه كل ما عنده، فلم يبخل عليها بما لديه من معلومات ودراسات وتنظيم ونصائح، فأصبحت تتباهى أمام زميلاتها بأنها تدربت في مكتبه العظيم.
وعلى الرغم من أن أخي صار محامياً، وأن ابنتي وزوجها محاميان، فقد بقيت منذ تخرجه إلى الآن أرجع إليه في كل قضية، أستشيره بها أو يرافع فيها، وهو منذ ذلك التاريخ وإلى الآن لا يقبل مني أتعاباً، ولا هدية وحتى وفي مرات كثيرة يدفع عني رسوم القضية دون أن يستردها.
أرجو له دوام التوفيق والنجاح، ووقاه الله شر الحساد، وأبقاه موئلاً لمن يبحث عن حق كاد يضيع في أدراج المحاميين ومكاتب المحاكم. 


فهد أبو العثم

عرفته في الأسبوع الأول لوصوله إلى دمشق ودوامه في كلية الحقوق، فقد أشار عليه أحد أصدقائي أن يبحث عني ويتعرف علي، وهكذا عرفنا بعضنا، هو طالب آتٍ من السلط فيه كل صفات الشهامة والصدق والآمال والطموحات.
حدث أن اجتمعنا عدد من طلاب الأردنيين في بيت أحدنا نتباحث عن حالة بلدنا والوضع المتأزم في أعقاب مظاهرات حلف بغداد، ولم نكن نسمع أي خبر عن بلدنا، فإذا أتى أحد اليساريين قال إن البلد تحترق والدولة منهارة وإذا أتى أحد اليمينيين يقول إن البلد بخير والحكومة تسيطر على الوضع وليس هناك ما يقلق، فالأمن مستتب والتموين كاف ويرجو ذلك اليميني الآتي من عمان أن يهيئ الطلاب أنفسهم ليعودوا ويستلموا عملهم في الدولة التي هي بحاجة إليهم.
وباعتباري كنت أكبرهم وأقدمهم في الجامعة بحكم السنوات السبع التي يمضيها طالب الطب، فقد جلست وصرنا ندير الجلسة بهدوء رغم أن الكل متوتر، وصدف أن كان بيننا طالب سوري قريب أحد الطلاب الأردنيين وأبدى رأياً غير مقبول وإذا بفهد ينبري إليه مؤنباً ومؤدباً ويقول له بغضب: مالك وما لنا ومن الذي أحضرك إلى اجتماعنا؟ وهكذا انقضت الجلسة وقررنا أن نذهب في اليوم التالي إلى سفيرنا في دمشق ونستفهم منه عن حالة بلدنا وأهلنا، وللأسف وجدناه لا يعلم شيئاً عن الحالة في عمان وطلب منّا أن نتصل به إذا وردنا أي خبر من الطلاب القادمين.
عدنا متأخرين وركبنا الباص وجلسنا في المقعد الخلفي الفارغ وجلس بجانبي فهد، وباعتبار أني رأيته سابقاً وأني أعجبت بشهامته، سألته أنت يا فهد ماذا تدرس؟
قال: الحقوق
قلت: وبعد أن تتخرج ماذا ستعمل؟
قال: محام أو قاض ولن أصبح قائم مقام السلط.
قلت: إذا كنت قاضياً فلا يجوز للقاضي أن يقضي وهو غضبان، وإن كنت محامياً فيكتشف خصمك سرعة الاستثارة عندك فيثيرك في أمر بسيط فتخسر القضية.
قال: بهدوء وابتسامة: وكيف كنت تريدني أن أتصرف؟
قلت: بهدوء وابتسامة: ترد بهما على من يعارضك إذا خالفك الرأي.
وأنا منذ تلك الجلسة في المقعد الخلفي لباص «القصاع – مرجه» لا أراه إلا باسماً هادئاً، وأنا كنت نسيت تلك الأمسية إنما ذكرني بها فهد وذكرها حتى أمام الجمع الكبير الذي أتاه يهنئه بالوزارة.
وصل إلى أعلى منصب في القضاء وإلى رئيس المحكمة الإدارية العربية بإجماع القضاة في القاهرة وبقي القاضي النزيه العلامة المبتسم دائماً، (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ). وقد رزقه الله الزوجة الصالحة والأولاد الصالحين.
سرني وبعد أن أنهيت كتابة ما سبق بأيام قرأت الصحيفة اليومية وفيها أن ابنه الدكتور معن نسور تعين في منصب المدير العام لمؤسسة الضمان الاجتماعي – فهذا الشبل من ذاك الأسد.
صدرت له عدة مؤلفات أهمها «القضاء الإداري بين النظرية والتطبيق» الذي صار مرجعاً هاماً للقضاة والمحامين في بلدنا وغيرها من البلدان العربية.
وقدم للكتاب الدكتور «أحمد كمال أبو المجد» وأقتبسُ من تلك المقدمة قوله: أتركك أيها القارئ الكريم لتستمتع كما استمتعت أنا بقراءة هذه الموسوعة التي وُفِّق صاحبها أعظم توفيق في تقديم الأفكار الدقيقة والآراء العميقة بأسلوب واضح جمع جمال التعبير اللغوي إلى دقة المعنى القانوني، فله على الأول أجر وعلى الثاني أجر، وله من كاتب هذه السطور عاطر الثناء وصادق التعبير.
صدرت الإرادة الملكية صباح هذا اليوم بتعيين معالي المحامي الأستاذ فهد أبو العثيم عضواً في المحكمة الدستورية.



محمد الحلالشة

عرفته في الجامعة السورية، كنت أنا في السنة النهائية في كلية الطب، وكان هو في السنة الثانية في كلية العلوم – قسم رياضيات فيزياء؛ وقد أتى مبعداً من مصر بسبب اتجاهه الإسلامي؛ وكان الأردني الوحيد الذي يدرس هذه العلوم الصعبة بالنسبة للطلاب الأردنيين.
كان شاباً منفتحاً للحياة، هادئاً، دائم الابتسامة، لا يتكلم كثيراً، له لحية صغيرة سوداء عُرف بها، كنت كلما رأيته أطمئن منه على مسيرته الدراسية في ذلك الفرع الصعب في كلية العلوم، وكان يطمئنني قائلاً «لا تخف عليّ فأنا مبدع في هذه الفرع».
بعد أن تخرجتُ طبيباً وعدتُ إلى عمان وباشرتُ عملي العام والخاص، كان يزورني في بيتي كلما أتى إلى عمان أثناء العطلة الصيفية الجامعية، وكنت أسعد أن يضيف عندي.
وبعد أن تخرج من كلية العلوم، ذهبتُ أنا وأبي هنأناه بتخرجه ودعوناه هو ومن يشاء من أهله احتفالاً بتخرجه. لكنه اعتذر آنياً وقال أنا أزوركم فيما بعد إن شاء الله بعد أن ألبي دعوات الأهل في بلدتي.
تعين بعد ذلك مدرساً في رام الله في الضفة الغربية ثم انتقل إلى عمان ثم انتدبوه مدة سنتين ليشغل وظيفة المستشار الثقافي في السفارة الأردنية في باكستان حيث سفيرنا هناك ماجد الحاج حسن.
كان فهد أبو العثم «الوزير العلاّمة» وصباح البيروتي «المحامي العبقري» أعز صديقين له وهو في الجامعة. وكان حسن التل «الصحفي المتميز» أعز صديق له في مجتمعه؛ فكان على اتصال معه وهو في باكستان، يُؤَمِّن له كل ما يطلبه من عمان بواسطة الحقيبة الدبلوماسية. عرّفْتَهُ في عمان على أكثر أصدقائي، وكانوا معجبين به وبلحيته السوداء المميزة لشخصه.
ذهب في بعثة إلى «نيوزيلندا» وحصل على درجة الماجستير في علوم الفيزياء. وبعد ما عاد، تعيّن مديراً للتربية والتعليم في محافظة اربد؛ ثم رئيساً للكلية الجامعية المتوسطة في السلط، التي أصبحت جامعة البلقاء فيما بعد.
أدار الكلية بهدوء، ولم يسمع عنه أي انتقاد من المسئولين أو من عامة الناس، فقد كان مسروراً ومرتاحاً بوظيفته ومكانته، فهي بالنسبة له، الطريق الأول الممهد ليستكمل اختصاصه في العلوم الرياضية والفيزياء، هذا الاختصاص المرموق في دول العالم المتفوقة علمياً وخاصة في علوم الذَّرة وعلوم الفضاء.
زارني في أحد الأيام وقال لي إني ذاهب غداً إلى مستشفى الجامعة لإجراء عملية جراحية في عيني، فهل توافق على ذلك، أم تفضل أن أجريها في مستشفاكم في «الشميساني»؛ قلت له طالما إنك مؤمن صحياً في مستشفى الجامعة، وهو على ما هو عليه من الشهرة والاختصاص العالي والخبرة الطويلة، فإني أفضل أن تتوكل على الله وتجريها هناك. قبّلْتهُ وتمنيتُ له الشفاء؛ ورجوته أن يعذرني إذ لن أزوره في المستشفى، ولكن أزوره في البيت بعد أن يخرج شافياً بإذن الله.
فوجئت بعد ذلك بيومين أن أسمع نبأ وفاته، وأنه توفي أثناء أو بعد العملية الجراحية. وقد حزنتُ عليه أشد الحزن وشاركت أهله وأولاده واجبات العزاء.
كنت أتوقع له، لو طال عمره، أن يصبح أحد علماء الفيزياء المشهورين في العالم العربي، لو توفرت له الرعاية العلمية في أعلى مستوياتها، إذ كانت المراكز النووية وأبحاث الفضاء تبحث عن أمثاله في بلاد العالم الثالث.
خلَّف وراءه ذرية «طيبة» أعرف منهم اثنين أحدهما طبيب في الجيش والآخر أستاذ مشارك في جامعة اسطنبول – 29 (أيار- مايو) هو د. إبراهيم محمد الحلالشة. تعرفت عليه أثناء زيارتنا لاسطنبول قبل شهرين، فإذا به متفوق في كل ما أسند إليه. وله نشاط ثقافي متنوع في الفضائية التركية التي تبث باللغة العربية.
وقد أجاد في استضافته الأستاذ الدكتور أحمد اقكوندوز وهو أستاذ التاريخ في إحدى أعرق جامعات «هولندا»، وهو يتكلم في سلسلة لقاءات تاريخية بموضوع تاريخي عالمي هام جداً وهو العثمانيون والتاريخ المجهول.