الاثنين، 22 أكتوبر 2012

رجال عرفتهم



ورد في كتاب «
 خمسون عاماً في مهنة الطب العام في عمان»

للدكتور موفق خزنة كاتبي 

                                       في جزء رجال عرفتهم


المحامي صباح البيروتي


عرفته في الجامعة السورية، كنت أنا في الصف قبل النهائي من كلية الطب، وكان هو في السنة الأولى من كلية الحقوق، كان أصغر طلاب كلية الحقوق من الأردنيين، وأكثرهم وسامة وأناقة، وكان أحد القلائل من الطلاب الأردنيين الذين تفرغوا للدراسة، إذ كان كثير منهم يأتون قبل الامتحان النهائي ويلزمون قاعة المطالعة، أو بعض المجالس في مقاهي طريق الصالحية، إلى أن يقضوا الفحص ثم يعودون إلى بلدهم.
كان خلوقاً متديناً دون تزمت، ذا شخصية جذابة حلو الحديث، لذلك كان القاسم المشترك بين كثير من زملائه، أحبه الجميع وأحبوه، ورغم كل هذه الصفات البديعة، لم أره مطلقاً مرافقاً لأحدى زميلاته في الكلية أو خارجها.
عرفت أنه من مدينة الزرقاء التي كنت أزورها كثيراً برفقة أهلي، لوجود بعض أصدقاء أبي القدامى ولوجود بركة الزرقاء، التي كانت أفخم بركة للسباحة والنزهة في الأردن.
ولذلك كانت لي علاقة خاصة معه بعد تخرجه، فكنت أزوره كلما ذهبنا، الأهل والأصدقاء إلى تلك البركة، وكثيراً ما كان صباح يدعونا لتمضية عطلة الأسبوع هناك، وفي إحدى المرات علَّم أخي عبد الله السباحة.
كنا كثيراً ما نترافق يوم الجمعة إلى رحلات في وادي السير مع موسى «بيوك»، أحد شباب الشركس وابن أحد زعمائهم، نذهب إلى بساتين الرمان، حيث النوع الفخم من رمان «جواد بيك» المشهور هناك، نمضي يومنا في الشواء تحت ظلال شجر الرمان، وعلى حافة قناة الماء البسيطة، التي تصب بشكل شلال صغير لتدير طاحونة مائية صغيرة، كان يعتمد عليها شراكس وادي السير قبل تأسيس المطاحن الكهربائية التي تدار بموتورات الديزل. وكثيراً ما كنا نمضي بعض رحلاتنا الأسبوعية في «السخنة» على نهر الزرقاء، أو في أحراش جرش تحت شجرة «الهدأة» البلوطية، ولهذا «نما» بيننا نوع من المحبة والأخوة، فصرت أنا طبيب أسرته، وهو مرجعي في المحاماة. وقد حبب إلى أخي عبد الله مهنة المحاماة، فذهب إلى دمشق وتخرج من جامعتها، وبقي يسير صعداً إلى أن حصل على شهادة الدكتوراه في القانون الجنائي، وأصبح محامياً أكاديمياً، أما صباح فبقي محامياً مزاولاً مهنته بنجاح، بدأ في الزرقاء حيث مدينته، وحيث يعرفه أكثر أهلها، فصار محامياً لأكثر تجارها وأكثر عائلاتها، ونظراً لوجود المحاكم العسكرية ومحكمة أمن الدولة في «بركسات» الجيش، صار على حداثته في المحاماة مترافعاً أمام المحاكم القضائية العسكرية، ومحكمة أمن الدولة، وقد اكتسب شهرة في هذا الميدان، وكثيراً ما كان رؤساء تلك المحاكم يستدعونه ليرافع عن متهمين، ليس لهم محام خاص، وكانت أكثر قضاياه تنتهي إلى النجاح.
انتقل مكتبه في أول السبعينات إلى عمان، وبقي أخوه المحامي المرحوم أحمد في مكتب الزرقاء قبل أن ينتقل المكتب إلى عمان. وبهذا انتقل صباح وبيته ومكتبه وأعماله إلى عمان، وتنقل بين مكتبين مستأجرين قبل أن ينتقل إلى «الفيلا» «الحديثة الشكل»، مكتب «شركة البيروتي محامون ومستشارون»، بفخامته الظاهرة وتنظيمه الباطن، وقد درس اثنان من أبنائه الحقوق وتخصصا في العقود والشركات، وهو الآن من أنجح المحامين، يعطي القضية حقها من الدراسة والمتابعة، ولا يترافع إلا في القضايا التي يعتقد بنجاحها ولوجود شرطين فيها الحق والقانون.
أصبح في علمه ومكتبه ونشاطه ونجاحه في قضاياه «أستاذ دكتور» في تلك المهنة، وأصبح كل من يوكله في قضية يطمئن إلى نجاحها، وقد سمعته أكثر من مرة يعبر عن قناعته، بأن واجب المحامي ألا يدخل في خصومة شخصية مع الخصم، جَرْياً على القاعدة الذهبية بأن المحاماة هي بذل عناية وليس تحقيق غاية. 
في إحدى السنوات، رجوته أن يقبل ابنتي المحامية الناشئة سميرة، لتتدرب في مكتبه حسب مطلوبات قانون نقابة المحاميين، وفعلاً أنهت تلك المدة وقد اقتبستْ عنه كل ما عنده، فلم يبخل عليها بما لديه من معلومات ودراسات وتنظيم ونصائح، فأصبحت تتباهى أمام زميلاتها بأنها تدربت في مكتبه العظيم.
وعلى الرغم من أن أخي صار محامياً، وأن ابنتي وزوجها محاميان، فقد بقيت منذ تخرجه إلى الآن أرجع إليه في كل قضية، أستشيره بها أو يرافع فيها، وهو منذ ذلك التاريخ وإلى الآن لا يقبل مني أتعاباً، ولا هدية وحتى وفي مرات كثيرة يدفع عني رسوم القضية دون أن يستردها.
أرجو له دوام التوفيق والنجاح، ووقاه الله شر الحساد، وأبقاه موئلاً لمن يبحث عن حق كاد يضيع في أدراج المحاميين ومكاتب المحاكم. 


فهد أبو العثم

عرفته في الأسبوع الأول لوصوله إلى دمشق ودوامه في كلية الحقوق، فقد أشار عليه أحد أصدقائي أن يبحث عني ويتعرف علي، وهكذا عرفنا بعضنا، هو طالب آتٍ من السلط فيه كل صفات الشهامة والصدق والآمال والطموحات.
حدث أن اجتمعنا عدد من طلاب الأردنيين في بيت أحدنا نتباحث عن حالة بلدنا والوضع المتأزم في أعقاب مظاهرات حلف بغداد، ولم نكن نسمع أي خبر عن بلدنا، فإذا أتى أحد اليساريين قال إن البلد تحترق والدولة منهارة وإذا أتى أحد اليمينيين يقول إن البلد بخير والحكومة تسيطر على الوضع وليس هناك ما يقلق، فالأمن مستتب والتموين كاف ويرجو ذلك اليميني الآتي من عمان أن يهيئ الطلاب أنفسهم ليعودوا ويستلموا عملهم في الدولة التي هي بحاجة إليهم.
وباعتباري كنت أكبرهم وأقدمهم في الجامعة بحكم السنوات السبع التي يمضيها طالب الطب، فقد جلست وصرنا ندير الجلسة بهدوء رغم أن الكل متوتر، وصدف أن كان بيننا طالب سوري قريب أحد الطلاب الأردنيين وأبدى رأياً غير مقبول وإذا بفهد ينبري إليه مؤنباً ومؤدباً ويقول له بغضب: مالك وما لنا ومن الذي أحضرك إلى اجتماعنا؟ وهكذا انقضت الجلسة وقررنا أن نذهب في اليوم التالي إلى سفيرنا في دمشق ونستفهم منه عن حالة بلدنا وأهلنا، وللأسف وجدناه لا يعلم شيئاً عن الحالة في عمان وطلب منّا أن نتصل به إذا وردنا أي خبر من الطلاب القادمين.
عدنا متأخرين وركبنا الباص وجلسنا في المقعد الخلفي الفارغ وجلس بجانبي فهد، وباعتبار أني رأيته سابقاً وأني أعجبت بشهامته، سألته أنت يا فهد ماذا تدرس؟
قال: الحقوق
قلت: وبعد أن تتخرج ماذا ستعمل؟
قال: محام أو قاض ولن أصبح قائم مقام السلط.
قلت: إذا كنت قاضياً فلا يجوز للقاضي أن يقضي وهو غضبان، وإن كنت محامياً فيكتشف خصمك سرعة الاستثارة عندك فيثيرك في أمر بسيط فتخسر القضية.
قال: بهدوء وابتسامة: وكيف كنت تريدني أن أتصرف؟
قلت: بهدوء وابتسامة: ترد بهما على من يعارضك إذا خالفك الرأي.
وأنا منذ تلك الجلسة في المقعد الخلفي لباص «القصاع – مرجه» لا أراه إلا باسماً هادئاً، وأنا كنت نسيت تلك الأمسية إنما ذكرني بها فهد وذكرها حتى أمام الجمع الكبير الذي أتاه يهنئه بالوزارة.
وصل إلى أعلى منصب في القضاء وإلى رئيس المحكمة الإدارية العربية بإجماع القضاة في القاهرة وبقي القاضي النزيه العلامة المبتسم دائماً، (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ). وقد رزقه الله الزوجة الصالحة والأولاد الصالحين.
سرني وبعد أن أنهيت كتابة ما سبق بأيام قرأت الصحيفة اليومية وفيها أن ابنه الدكتور معن نسور تعين في منصب المدير العام لمؤسسة الضمان الاجتماعي – فهذا الشبل من ذاك الأسد.
صدرت له عدة مؤلفات أهمها «القضاء الإداري بين النظرية والتطبيق» الذي صار مرجعاً هاماً للقضاة والمحامين في بلدنا وغيرها من البلدان العربية.
وقدم للكتاب الدكتور «أحمد كمال أبو المجد» وأقتبسُ من تلك المقدمة قوله: أتركك أيها القارئ الكريم لتستمتع كما استمتعت أنا بقراءة هذه الموسوعة التي وُفِّق صاحبها أعظم توفيق في تقديم الأفكار الدقيقة والآراء العميقة بأسلوب واضح جمع جمال التعبير اللغوي إلى دقة المعنى القانوني، فله على الأول أجر وعلى الثاني أجر، وله من كاتب هذه السطور عاطر الثناء وصادق التعبير.
صدرت الإرادة الملكية صباح هذا اليوم بتعيين معالي المحامي الأستاذ فهد أبو العثيم عضواً في المحكمة الدستورية.



محمد الحلالشة

عرفته في الجامعة السورية، كنت أنا في السنة النهائية في كلية الطب، وكان هو في السنة الثانية في كلية العلوم – قسم رياضيات فيزياء؛ وقد أتى مبعداً من مصر بسبب اتجاهه الإسلامي؛ وكان الأردني الوحيد الذي يدرس هذه العلوم الصعبة بالنسبة للطلاب الأردنيين.
كان شاباً منفتحاً للحياة، هادئاً، دائم الابتسامة، لا يتكلم كثيراً، له لحية صغيرة سوداء عُرف بها، كنت كلما رأيته أطمئن منه على مسيرته الدراسية في ذلك الفرع الصعب في كلية العلوم، وكان يطمئنني قائلاً «لا تخف عليّ فأنا مبدع في هذه الفرع».
بعد أن تخرجتُ طبيباً وعدتُ إلى عمان وباشرتُ عملي العام والخاص، كان يزورني في بيتي كلما أتى إلى عمان أثناء العطلة الصيفية الجامعية، وكنت أسعد أن يضيف عندي.
وبعد أن تخرج من كلية العلوم، ذهبتُ أنا وأبي هنأناه بتخرجه ودعوناه هو ومن يشاء من أهله احتفالاً بتخرجه. لكنه اعتذر آنياً وقال أنا أزوركم فيما بعد إن شاء الله بعد أن ألبي دعوات الأهل في بلدتي.
تعين بعد ذلك مدرساً في رام الله في الضفة الغربية ثم انتقل إلى عمان ثم انتدبوه مدة سنتين ليشغل وظيفة المستشار الثقافي في السفارة الأردنية في باكستان حيث سفيرنا هناك ماجد الحاج حسن.
كان فهد أبو العثم «الوزير العلاّمة» وصباح البيروتي «المحامي العبقري» أعز صديقين له وهو في الجامعة. وكان حسن التل «الصحفي المتميز» أعز صديق له في مجتمعه؛ فكان على اتصال معه وهو في باكستان، يُؤَمِّن له كل ما يطلبه من عمان بواسطة الحقيبة الدبلوماسية. عرّفْتَهُ في عمان على أكثر أصدقائي، وكانوا معجبين به وبلحيته السوداء المميزة لشخصه.
ذهب في بعثة إلى «نيوزيلندا» وحصل على درجة الماجستير في علوم الفيزياء. وبعد ما عاد، تعيّن مديراً للتربية والتعليم في محافظة اربد؛ ثم رئيساً للكلية الجامعية المتوسطة في السلط، التي أصبحت جامعة البلقاء فيما بعد.
أدار الكلية بهدوء، ولم يسمع عنه أي انتقاد من المسئولين أو من عامة الناس، فقد كان مسروراً ومرتاحاً بوظيفته ومكانته، فهي بالنسبة له، الطريق الأول الممهد ليستكمل اختصاصه في العلوم الرياضية والفيزياء، هذا الاختصاص المرموق في دول العالم المتفوقة علمياً وخاصة في علوم الذَّرة وعلوم الفضاء.
زارني في أحد الأيام وقال لي إني ذاهب غداً إلى مستشفى الجامعة لإجراء عملية جراحية في عيني، فهل توافق على ذلك، أم تفضل أن أجريها في مستشفاكم في «الشميساني»؛ قلت له طالما إنك مؤمن صحياً في مستشفى الجامعة، وهو على ما هو عليه من الشهرة والاختصاص العالي والخبرة الطويلة، فإني أفضل أن تتوكل على الله وتجريها هناك. قبّلْتهُ وتمنيتُ له الشفاء؛ ورجوته أن يعذرني إذ لن أزوره في المستشفى، ولكن أزوره في البيت بعد أن يخرج شافياً بإذن الله.
فوجئت بعد ذلك بيومين أن أسمع نبأ وفاته، وأنه توفي أثناء أو بعد العملية الجراحية. وقد حزنتُ عليه أشد الحزن وشاركت أهله وأولاده واجبات العزاء.
كنت أتوقع له، لو طال عمره، أن يصبح أحد علماء الفيزياء المشهورين في العالم العربي، لو توفرت له الرعاية العلمية في أعلى مستوياتها، إذ كانت المراكز النووية وأبحاث الفضاء تبحث عن أمثاله في بلاد العالم الثالث.
خلَّف وراءه ذرية «طيبة» أعرف منهم اثنين أحدهما طبيب في الجيش والآخر أستاذ مشارك في جامعة اسطنبول – 29 (أيار- مايو) هو د. إبراهيم محمد الحلالشة. تعرفت عليه أثناء زيارتنا لاسطنبول قبل شهرين، فإذا به متفوق في كل ما أسند إليه. وله نشاط ثقافي متنوع في الفضائية التركية التي تبث باللغة العربية.
وقد أجاد في استضافته الأستاذ الدكتور أحمد اقكوندوز وهو أستاذ التاريخ في إحدى أعرق جامعات «هولندا»، وهو يتكلم في سلسلة لقاءات تاريخية بموضوع تاريخي عالمي هام جداً وهو العثمانيون والتاريخ المجهول. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق